نقد ومقالات

ملف “ملحق كلمات” عن “خالدة سعيد”

خالدة سعيد: ناقدة الحداثة العربية

«قلت ليوسف الخال: ادْعُ أدونيس للغداء كي لا يشغلني الطبخ. حبست نفسي أياماً مع المجموعة الشعريّة أقرأ وأعيد، أكتب وأمحو وأعيد. ووجدت أنني لا أقدر أن أستفيد من أساليب النقد المعروفة التي تدور حول النصّ دوراناً. وبدأت اكتشاف طريقتي الخاصّة، ولن أقول منهجي، فكلمة منهج تخيفني بما فيها من «أستذة»»… هكذا بدأت رحلة خالدة سعيد في النقد ومواكبة نهضة العرب الثانية في بيروت في الثقافة والشعر والمسرح والفن مع كوكبة من المبدعين والشعراء أمثال يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وغيرهم.

———————————-

خالدة سعيد: الحرب الأهلية اللبنانية عطّلت مسار النهضة

محمد ناصر الدين

«قلت ليوسف الخال: ادْعُ أدونيس للغداء كي لا يشغلني الطبخ. حبست نفسي أياماً مع المجموعة الشعريّة أقرأ وأعيد، أكتب وأمحو وأعيد. ووجدت أنني لا أقدر أن أستفيد من أساليب النقد المعروفة التي تدور حول النصّ دوراناً. وبدأت اكتشاف طريقتي الخاصّة، ولن أقول منهجي، فكلمة منهج تخيفني بما فيها من «أستذة»»… هكذا بدأت رحلة خالدة سعيد في النقد ومواكبة نهضة العرب الثانية في بيروت في الثقافة والشعر والمسرح والفن مع كوكبة من المبدعين والشعراء أمثال يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وغيرهم. دشّن أولئك الروّاد زمن حداثة بيروت في «شعر»، وكان لا بدّ للباحثة القادمة من الفن التشكيلي ومن مدرسة الفنون والصناعة الدمشقيّة والمتخرّجة لاحقاً من الجامعة اللبنانية وجامعة السوربون أن تستطلع «أفق المعنى»، فأمعنت فيه تأمّلاً وتشريحاً ومساءلة تلقي الضوء على الأدوار التي قام بها المثقّفون والشعراء والمبدعون الكبار، وتناقش أكثر من «مانيفستو» للحداثة وتستطلع التجارب بمشتركاتها وخصوصياتها في مؤلفات مرجعية للمكتبة العربية من «في البدء كان المثنّى» و«يوتوبيا المدينة المثقفة» و«حركية الإبداع» و«أفق المعنى» و«الحركة المسرحية في لبنان» وغيرها من عشرات الكتب والدراسات وآخرها كتابان يصدران قريباً عن «دار الساقي» و«دار التكوين». هي زوجة الشاعر أدونيس وصديقته من أيام السجن في دمشق، فتجربة «شعر» و«مواقف» مروراً بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982 والرحيل إلى باريس، في تجربة تصفها بأنها «كانت أعظم نِعَم الله عليّ». أردناه في «كلمات» حواراً شاملاً مع الناقدة الأنيقة المؤرّخة لأجمل ما أنتجه العرب في تاريخهم الحديث، حول البدايات و«شعر» والتجربة مع أدونيس والحداثة والتنوير، تضع خالدة سعيد بين أيدينا عصارة تجربة فذّة تركّز على أكثر ما نحتاج إليه في زمن الردّة والرداءة والجمود وضيق المعنى: «التفاعل والترجمة ونحت المصطلحات وإحياء المنسيّ المُهمَل من عناصر اللغة والإلحاح على دلالات مستجدة… هذه بين الينابيع التي تستمدّ اللغةُ منها الحياة».

كيف تشكّلَ الوعيُ النّقديّ لدى خالدة سعيد؟ حدّثينا عن البدايات… في أيّ مرحلة من مسيرتك رأيت أنّك صرتِ تمتلكين منهجك الخاصّ في النّقد؟

ـــــ بالنّسبة إليّ، وفي تَصَوّري وفهمي الآن، يتشكّل الوعْيُ النّقديّ أو الفهم التحليليّ ــ التّقويميّ للنصوص والنتاج الإبداعيّ إجمالاً، على مراحل: أوّلها الاطّلاع، بدرجة كافية من المواظبة والشّغَف والتّملُّك بواسطة القراءة، أي التعرُّف المُرَكّز، والتّذَوّق الذي يستنفر الخلفيّات والذاكرات والمفهومات، وصولاً إلى الفهم المخصوص للنصّ، ورؤية الحركة الإبداعيّة الواسعة في مسارها وموقعها في التاريخ، ومعنى حضور نصوص معَيّنة، وخصوصيّة هذه النّصوص. وهذا كلّه يفترض مستوى من الاطّلاع المُتواصِل المُتخَصِّص، ومن الشّغَف أو الميل والفهم الذي يسمح بسلوك مسار التّحليل.

أنا شخصيّاً أقدر أن أصف نفسي بأنني كنت دائماً قارئة نهمة. والقراءة ملأت كلّ فراغ في حياتي بين عمر السادسة وعمر العشرين وما بعد، بطبيعة المسار. كنت أقرأ النص أكثر من مرّة حتى لو كان رواية. وبالتالي، أصبحت القراءة بمثابة سليقة أو غريزة، وتواصلَت. لم يكن الاهتمام اللغويّ ولا الحكائي الترفيهيّ هو الحافز الوحيد. فقد أمضينا أنا وأختي سنية صالح، بسبب الوفاة المبكرة جدّاً لوالدتنا، أمضينا سنوات في المدرسة الداخلية، وكنّا نبقى فيها حتى أثناء بعض العطل المدرسيّة. ولم يكن أبي يبخل علينا بالكتب لنملأ فراغ الأيام. وقد قرأت معظم الأعمال الروائية النّهضوية، لأنها كانت متوافرة في مكتبة الراهبات.

في مرحلة الدراسة الثانوية (في دمشق)، كنت أهتمّ كثيراً بتحليل النصّ، وبدأت أكتب في مجلة المدرسة مقالات أدبيّة وأخلاقيّة. ثمّ كتبت مقالات وطنيّة وأدبيّة في صحيفة للحزب السوري القومي الاجتماعيّ الذي انتميت إليه، بعد تعرّفي إلى أدونيس وارتباطي به. فقد انتسبت إلى هذا الحزب، وبقيت منتسبة مدة ستّ سنوات، ثمّ انسحبت.

لكنني، على الرغم من هيامي بل غرقي في القراءة، لم أفكّر في ممارسة النقد، وإنّما في الفنّ التشكيلي. فقد جئت إلى دار المعلّمات بعد تخرجي من مدرسة الصناعة والفنون. وقد داومت في مرسم فنّان دمشقيّ معروف مدة ثلاث عطل صيفية؛ ونجحت في مسابقة لتدريس الفنّ التشكيليّ (للطلاب في صفوف غير المتخصّصين)، ونلت الدرجة الأولى على سوريا، ودرّست فنّ الرسم مدّة أربع سنوات قبل انتقالي إلى لبنان. غير أنّني واجهت، بسبب الانتماء إلى هذا الحزب، كوارث، وانتقلت مع أدونيس إلى لبنان بعد الزواج. وكان أدونيس قد واجه ظلماً مجّانيّاً يصعب تصوّره. وبلا أيّ مُسَوِّغ، وفي كلّ مرّة كان يخرج من السجن العسكريّ الطويل (تسعة أشهر ثمّ عشرة أشهر) بـ «منع محاكمة»، لعدم وجود تهمة. (ما تفسير ذلك؟)

في لبنان مضى موضوع الفنّ التشكيلي مع ما مضى بسبب الفقر وعدم توافر الظروف والإمكانات. هكذا عند انتقالي إلى لبنان، تحوّلت إلى ترجمة الكتب (لأسباب اقتصادية)، وإلى تدريس الأدب العربيّ حتى صف البكالوريا، ولم أكن بعد أحمل إلا شهادة البكالوريا. جاء موضوع النقد مصادفةً. كنت، منذ عمر مبكر معنيّة جدّاً بالشعر. تعمّقَتْ هذه العلاقة بحكم ارتباطي بشاعر، ثمّ زواجنا. وتحمّست لحركة الحداثة التي أطلقتها مجلة «شعر». كنت أشارك، مثل غيري، في مناقشات «فندق بلازا» لدى إطلاق المجلة والحركة.

ويبدو أنّ الشاعر الراحل يوسف الخال سمعني بانتباه. لذلك كلّفني أن أكتب المقالة النّقدية الأولى التي ستُنشر في مجلة «شعر» حول مجموعة أدونيس الأولى في بيروت «قصائد أولى» (1957). وكان قد رفض مقالة كتبها عن أدونيس أحد الأساتذة في الجامعة الأميركية. خفتُ واعتذرت قائلةً لم أكتب النّقد أبداً، ولا أعرف كيف يُكتَب النّقد. وقال أدونيس قوليَ نفسه. لكنّ الخال ألحّ وقال: «أعرف ما تعرف، لقد سمعتُها».

كانت تجربة مخيفة ورائعة. وقلت ليوسف الخال «ادْعُ أدونيس للغداء كي لا يشغلني الطبخ» (طبعاً كنت تقليدية أراعي واجبات ربة البيت). حبست نفسي أياماً مع المجموعة الشعريّة أقرأ وأعيد، أكتب وأمحو وأعيد. ووجدت أنني لا أقدر أن أستفيد من أساليب النقد المعروفة التي تدور حول النّص دوراناً. وبدأت اكتشاف طريقتي الخاصّة، ولن أقول منهجي، فكلمة منهج تخيفني بما فيها من «أستذة». لن أنسى تفصيلاً طريفاً: من خوفي لم أوقِّعْ باسمي، لا سيما أنني أكتب عن زوجي، بل وقّعت باسم «خزامى صبري» الذي يبدأ بحرفَي اسمي: خالدة صالح. وبدأت الأسئلة: من هي خزامى صبري؟ ولم أتشجّع وأوقع باسمي إلّا بعد مرور سنتين وبعد كتابتي عن آخرين. نجحت، في رأي الجماعة (جماعة شعر)، فكتبت المقالة الثانية عن يوسف الخال في «البئر المهجورة» ثمّ عن نازك الملائكة، في «قرارة الموجة» وانطلق المَسار.

واكبتِ بيروت حين كانت مختبراً للحداثة العربيّة وبياناتها التأسيسيّة في الشعر والأدب والمسرح. ماذا تتذكّرين من تلك النهضة؟ هل كانت مشروعاً يتشكّل وقضت عليه الحرب؟

ـــــ نعم واكبتُ انطلاقةَ حركتين، في الشعر والمسرح. وأسمح لنفسي بالقول إنني لم أكن بعيدة أو غريبة عن الجوّ. ومع أنني كتبت عن الحركتين، فإنني أعتبر مشاركتي متواضعة تنحصر في ميدان التلقّي والنّقد. لقد أفدتُ من الحركة العامّة، بل اعتنقتُها، وحاولت أن أكتب عن كلّ جديد، من الشعر إلى المسرح، وهما الحركتان الأوضح والأقوى في المرحلة القائمة بين أواخر الخمسينيات ومنتصف السبعينيات. لكن، طبعاً كتبت عن المسرح من الخارج، ولم أُسهم إلّا كناقدة أو دارسة وبتكليف من «مهرجانات بعلبك الدوليّة». أشير هنا إلى كتابي «الحركة المسرحية في لبنان». أذكر فوران الستينيات من القرن الماضي. ذلك التطلّع والإحساس بأنّ العالم يولد من جديد، وأنّ الأفق مفتوح لجميع الإمكانات. كان عليّ أن أقرأ قراءتي وأن أكتشف طريقتي. وقد بذلت اهتماماً وقرأت كتباً، وتحدثت طويلاً إلى الشعراء وبالأخصّ إلى المسرحيين.

من أجل الدراسة عن المسرح، سجّلت عشرات الساعات من الأحاديث على مدى ثلاث سنوات متواصلة. فكأنني درست المسرح وتاريخ المسرح اللبنانيّ، وجانباً من المسرح الأرمني ــ اللبنانيّ والفرنسيّ ــ اللبنانيّ ومسرح الجامعة الأميركية. والحقيقة أنّ الشكر في إعطائي الوقت الذي اتّسع لهذه الدراسة أوجّهه لسيدات المهرجان، وبالأخصّ إلى الراحلتين سعاد نجار ثمّ جانين ربيز، وكانتا متخصّصتَين في المسرح العربيّ. ولن أنسى التعاون المدهش للمسرحيين أنفسهم، من المسرح العربيّ إلى الأرمنيّ والفرنسي ومسرح الجامعة الأميركية.

تقولين في «يوتوبيا المدينة المثقّفة»: «البنى المباشرة أي السياسية الاجتماعيّة الاقتصادية على أهميتها لا تصنع النّهضة ما لم تكن في أساسها وأساس تطلّعاتها، أبعاد الإنسان الحرّ المُنفتح عمقيّاً، الإنسان في حضوره الكلّيّ الواعي والباحث» هل توافرت شروط النهضة المُشار إليها في العالم العربي؟ أم أننا ننتظر غودو؟

ــــ يصعب هنا الكلام بدقة علميّة. لكن، بالنسبة إلى لبنان، على الأقلّ، (وحتى إلى غيره من البلدان العربية) فإنّ أسباب النهوض، (دوافعه، عوامله، مقوّماته التاريخية والراهنة، فرسانه، وعديد من شروطٍ ثقافيّة ـ حضارية) حضرت بكلّ تأكيد. لنتذكّر الحماسة التي استُقبِلَت بها مهرجانات بعلبك، أو بعض الحركات المسرحية والأدبية والفنّيّة والموسيقيّة. عدد الجامعات، عدد الأقطاب، عدد المبعوثين المتفوقين، وأصحاب المشروعات… لكن أيضاً، لنتذكّر: الحرب الحرب يا إخوتي! الحرب الأهلية هذا الجنون التاريخيّ! الحرب التي تهدم ولا تبني:

الحرب الأهلية اللبنانية لعبت دوراً مُعَطِّلاً ومُحبِطاً. وفوق ذلك هناك خلل مؤسَّسيّ تنظيميّ. لأنّ غياب البنى الراسخة مسؤول بعض المسؤولية. على أي حال، موضوع النّهوض لا يقتصر على حركة فنّيّة هنا وحركة أدبية هناك. بل يتطلّب بحثاً أشمل. ولا بدّ من التساؤل عن أسباب صعود الحركات الإبداعية صعوداً مدهشاً بل متفوِّقاً، وانطفائها بعد وقت قصير من دون استكمال مسارها ومن دون أن تترك ورَثَة يمكن نهوضهم بما يسمح بمواصلة المسير.

هل النقد في العالم العربي ممكن إن لم يلمس البنى العميقة للمجتمع العربي؟ والنقد الأدبي ممكن برأيك في تراث أدبيّ في غاية التشابك مع التراث الدينيّ؟

طبعاً النقد ممكن، ولو بصعوبة؛ أو يتطلّب كثيراً من الدقّة والتعمّق وعدم الشطح والشجاعة، بل المغامرة على حدود الدين. لنتذكر المراحل التاريخية في بلادنا وفي العالم. إنّه الصراع أو الجدل المتواصِل. لنتذكّر عشرينيات القرن العشرين وغيرها من المراحل: طه حسين وعلي عبد الرازق…. هناك ظالمون متسرّعون، لكن هناك أبطال ومندفعون لقول ما يؤمنون به. في كل حال، التطرُّف لا يجدي أو لا ينجح. ولا شيء يوقف التطوّر مهما جرى تعطيله أو مهما كان الارتكاس. إنّما لا تطوّرَ بلا صراع، أو على الأقلّ بلا جَدَل ومواجهة. وفي الوقت نفسه لا يحصل دائماً أن يتوالى التطوّر ويتواصل. ومخاطر الارتكاس قائمة دائماً. لنسأل التاريخ.

هل خسرنا معركة التنوير والحداثة في العالم العربيّ أمام الطُّغاة والأصوليين والفقهاء؟ وإن لم نخسر هذه المعركة بالضربة القاضية، من أين برأيك نبدأ تثوير الإنسان العربيّ وتنويره؟

ـــ ليس عندي مخطّط لتثوير الإنسان العربي. هذا العنوان كبيرٌ عليّ. عندي مبادئ وقيَم تحترم حريةَ الفكر وتُحَذّر من التكفير وتدعو إلى البحث والاستشراف. عندي إيمان بالتّنوير والمتنوِّرين، عندي إيمان بالمعرفة اكتساباً وعطاءً. أؤمن بحرية البحث والحوار والتبادل والتعبير. كما أعرف أن طرق الرسالات، مثل طرق التجديد، لم تكن سهلة في أيّ يوم. لنتذكّر عصر النهضة، على الأقلّ. شخصيّاً، لا أحبّ إلقاء اللوم على الظروف وحدها أو على الحاكمين مهما كان طغيانهم.

هل اللغة العربية تساعد النّاقد اليوم في أي منهجية علميّة، في ظلّ الشرخ بين العامية والفصحى، وعجزها عن أن تكون لغة علميّة مصنَّفة؟ هل المناهج المدرسية (اللغوية خاصّةً) مؤهّلة في العالم العربيّ لمواكبة العصر والحداثة؟

ــــ سمعت كثيراً عن عجز اللغة العربيّة. كيف يعجز «الفاهِم» عن التعبير عمّا فهم؟ وهل من فَهم علميّ خارج اللغة؟ وهل للّغة جدران تمنع الاكتساب أو ترجمة المصطلحات أو توليدها أو اشتقاقها وتحليل المعلومات؟ طبعاً هذا لا يتمّ ارتجالاً. والمعرفة سافرت دائماً، من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق. ووسائط سفرها ممكنة اليوم أكثر من أي وقت مضى. المعرفة، العلميّة خاصّةً، لها جنسية «إنسانية» لا تتنافى مع أيّ من الخصوصيات القومية.

هل قدّمت البلاغة العربية نظرية لغوية ونظرية أدبية تشهدان بـ «عبقرية» ما للعقل العربي؟ ولو لم يرفع الحداثيون شعار «القطيعة مع التراث»، هل كان من الممكن تطوير خطّين في الثقافة العربية لا يقلّان نضجاً وتكاملاً عن المدارس اللغوية والأدبية الغربية؟

ـــ حضرتُ معظمَ السجالات في لبنان، وقرأت كثيراً مما كُتِب في بلدان عربية وغير عربية حول الموضوع. لكنني سمعت عن حرية التغيير والتطوير والإبداع، ولم أسمع عن القطيعة مع التراث. صحيح وردت كلمة «قطيعة» بمعنى حرية التطوّر والتطوير، جماليّاً أو أسلوبيّاً أو على مستوى القضايا والمعالجة. وهذا تفرضه الطبيعة وحركة الحياة والنموّ والتعمُّق وصدمة الاتصال والاختلاط وآليات الاكتساب أو الامتصاص، وانزياح القيم والظروف وتسارع الإبداعات والتواصُل وسائر الشروط التاريخية. أمّا القطيعة؟ كيف تكون القطيعة؟ وبأيّ آليات يتمّ ذلك لو حضر توجُّهٌ أو قرارٌ من هذا المستوى؟ حتى حالات الغزو الشامل، فإنها تُواجَه من قِبَل المغزوّ بالتقوقُع والتشبّث بالجذور لا بالقطيعة ولا سيما مع اللغة الأمّ. لكن صحيح أنّ منطق التصوير البلاغيّ تطوّر وبات يجنح نحو المجاز واللمح وحتى الغلوّ في التجريد، أكثر مما يأنس إلى التشبيه والاستعارة الكلاسيكية. ولا أجد اللغة العربية والمفكّر بل الإنسان العربيّ قاصراً عن السيطرة على هذا التطور والاغتناء به.

هل يُعَدّ الحديث عن فكر إنسانيّ اليوم حديثاً مُغرِقاً في المثالية؟ وهل ينبغي تأصيل ثقافات قومية أو عرقية؟ وكيف السبيل إلى ردم الهوّة الثقافية بين الغرب المُتَنَوِّر والعالم العربي المُغرِق في أصوليّاته؟

ــــ هذه ثلاثة أسئلة أو ثلاث قضايا كبيرة ومتمايزة:

أ ـ الحديث عن فكر إنساني بالمعنى المطلق المجرّد هو مثاليّ حقّاً، لكنه ليس عبثيّاً أو بلا أفق أو دلالة.

ب ــ الثقافات القومية والعرقيّة أصيلة، لكن تنبغي حمايتها، لا بالانغلاق، بل بإدخال نسمات الحياة والتفاعل إلى نسيجها، ولا بتجميدها أو تحنيطها وقوقعتها والتقوقع داخلها؛ لأنّ هذا يحول دون تفاعلها بالواقع الحيّ. التفاعل والترجمة ونحت المصطلحات وإحياء المنسيّ المُهمَل من عناصر اللغة والإلحاح على دلالات مستجدة. ثمّ التفاعل. هذه بين الينابيع التي تستمدّ اللغةُ منها الحياة. أمّا كيفية ردم الهوّة الثقافية بين الغرب والعالم العربي، فهو سؤال يتجاوز إمكانات هذا الحديث. أقدر أن أقول عبارتين: أنا مع التفاعل والبحث ولست مع الانفعال. وأعني الابتعاد ما أمكن عن «النقل المحض».

تقلّص حضور النّقد في الساحة الشعريّة اليوم. بتنا مُغرَمين بنظريّات الموت من موت المؤلِّف إلى موت الشعر نفسه، وصولاً إلى موت الناقد. هل «مات» النّاقد فعلاً؟ هل النقد كما مارستِه طول هذه السنوات كان جسراً بين المبدع والمتلقّي؟ ومن هم قرّاء المحاولات النقدية؟

ـــ لا تستمرّ الأمور على حالها. ألا تلاحظ في الوقت نفسه تزايد البحوث الأدبية والاجتماعية والإنسانية والتحليلات السياسية والأنتروبولوجية، والعلمية؟ لا أحبّ التصنيفات كثيراً. لكنني أقول إنّ النقد هو أكثر من شارح يقوم بوظيفة التواصل بين المبدع والقارئ. فهو، إلى هذا، يضيف رؤيته للموضوع، ويكشف لهذا الموضوع أبعاداً جديدة وتداخلات جديدة، وربّما قلب الموقف برمّته واكتشف بعداً خفيّاً في النصّ المدروس. فالناقد ملتزم بالنص المدروس، هذا صحيح، لكنه ليس أسيره، بل يسافر فيه وحوله، ويفتح أضواء ومداخل. ولا ننسى أنّ التطوّر قد شجع البحث الأدبيّ وأسقط على النصوص أضواء جديدة. النقد الأدبي لم يعد مجرد شرح وتقويم. التحليل نفسه اتّسعت آفاقه في اتّجاهات عديدة أدبية وفلسفية واجتماعية وسياسية…

كيف هي قصيدة النثر اليوم؟ هل ثمّة استسهال وهشاشة في كتابتها؟

ــــ اسمح لي أن أهمل سؤال قصيدة النثر كنوع أدبيّ مخصوص ومستقلّ. لكن ما سمّي قصيدة النثر هو شعر مطلق لا يتقيّد بالمسار التاريخيّ للشكل الشعريّ تحديداً. شاعر ما يُسمّى «قصيدة النثر» يستوحي جمالياته من مصدر غير المصدر الموسيقيّ المتمثّل بالوزن. الآن، هل ينجح أو لا ينجح هذه قضية مختلفة، بل فردية. وفي الوقت نفسه، لم يعُد الوزن درعاً حامياً أو معياراً كافياً لضمان القيمة الشعرية. وبالطبع، الكتابة نثراً لا تشفع بنص ضعيف. الآن النص بكامله لفظاً ومناخاً ودلالات هو المعيار. أمّا عن الاستسهال؟ الوزن أيضاً كان معياراً سطحيّاً لا يضمن القيمة الشعرية.

كرَّسْتِ كتاباً تأريخيّاً نقديّاً مهمّاً للمسرح اللبنانيّ، لعلّه المرجع الأهمّ للعصر الذهبيّ للمسرح اللبنانيّ وتعملين على كتاب شامل عن فيروز. إلى أي مدى تقتربين في منهجك ومشاغلك من تصوّر شامل للنقد العابر للأصناف الأدبية والأنواع الإبداعيّة، على نقيض النقد التخصّصيّ الذي ينحصر بنوع معيّن؟

ــــ لنبدأ بتصحيح الخبر الذي انتشر حول الكتاب عن فيروز: صحيح أنني رغبت في ذلك، وزرتُها على امتداد سنوات لهذه الغاية، بل منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي الأساس قمت بذلك بطلب من «دار مركور دو فرانس» (كانت تملكها وتديرها مدام غاليمار والدة أصحاب «دار غاليمار»، على روحها الرحمة) أي أهمّ دار في فرنسا. ولكنّ المهمة لم تنجح. السيدة الغالية النبيلة على قدر عظيم من الخفر، ولا تتكلّم عمّا يخرج عن العموميات أو الأخبار المعروفة. هذه الأخبار مهمّة. لكنها لا تكفي، وهي موجودة في الصحف. كتابة السيرة تطلب الكلام، وإن لم يكن كلّ الكلام. لكن لا بدّ من حكاية فيها شيء من الخصوصية والجِدّة قياساً إلى الشائع المعروف. الآن صرتُ في وضع صحيّ لا يسمح بالسّفر، ولا بالعمل على موضوع بالغ الجدية، بل هو بالنسبة إليّ موضوع مقدّس. لكنه الآن مضى. تجاوزه الوقت، تجاوزني الزّمن، وتجاوزَ إمكاناتي. نأتي إلى كتابي عن المسرح اللبناني: لقد أعطاني فرصة عظيمة للاقتراب من الفنانين المسرحيين. حاورتهم ودرست أعمالهم، وتكرّموا عليّ بملفّاتهم وذكرياتهم وتحدّثوا عن تجاربهم. كان المشروع في البداية أقلّ أو أبسط مما صار عليه بفضل غزارة المعلومات وغنى التجربة وعمقها، أي بفضل المسرحيين. فقد تعاونوا بحماسة شرّفَتْني حقّاً. وأسعدني صدور هذا الكتاب قبل وفاة بعض سيدات المهرجان ولا سيما سعاد نجار وجانين ربيز. وأنا في الحقيقة اغتنمت الفرصة لأعمّق الموضوع، فلا يأتي إخباريّاً، وطالبت بالمهلة بعد المهلة، واستغرقت سنوات حتى بات النّصّ مُرْضِياً لهيامي بالمسرح والحركات الفنية وبلبنان.

وصفت الحداثة في كتاب «أفق المعنى» بعقدة جلجامش، اشرحي لنا هذه التّسمية.

ـــــ عقدة جلجامش تسمية أو اصطلاح تصوّرتُه انطلاقاً من دراستي لملحمة جلجامش. (لم أنشرها بعد). سأشرح بإيجاز:

جلجامش (ثلثه إنسان ثلثاه إله) مع ذلك لا مهرب له من الموت، شأن البشر جميعاً. وهذا هو هاجسه ومعضلته أو عقدته. يمرّ بأطوار:

1. مرحلة الغرق في الحسيّ تهرُّباً من وعي الزمن.

2 ثم حتمية الوعي بالموت وبمحدودية الزمن، حين يموت صديقه.

3. يذهب في سفر طويل إلى ما وراء بوابة الشمس ليحصل على عشبة الخلود. وتقع له في طريق العودة مع العشبة أحداثٌ جسام. ويصاب باليأس.

4 . لكنه حين يعود يائساً، بعد فَقد العشبة واليأس من الخلود، يكتشف حلّاً أو علاجاً أو عزاءً واقعيّاً إبداعيّاً عن معضلة الموت: هذه المعاناة وهذا الوعي وهذا الحلّ المدهش، هو ما أسميته «عقدة جلجامش».

رافقتِ أدونيس كزوجة وناقدة وصديقة. كيف تصفين هذه التجربة؟

ــــ كانت أعظم نِعَم الله عليّ. ليس فقط بسبب لطف أدونيس ونبله. فإلى جانب ذلك، يشعر من يعيش قربه أنه مُطالَب دائماً بأن يكون بالغ الذكاء سريع الفهم، واسع الاطّلاع، يستبق الأشياء ويتنبّأ بالخطر كما يتنبّأ بمصادر النور؛ أي أن يكون عظيم الحساسية بعيد الرؤية. القرب منه طالبَني بحضور أموميّ ورؤية استباقيّة، وبأن أتجاوز نفسي في كل خطوة، وبالأخص جعلني أطمح إلى استقبال مميّز للشعر. ولا أعرف إن كنت قد حققت القليل من هذا الطّموح. عندي شعور دائم بالتقصير.

هل من حنين إلى بيروت؟ ماذا طبعت فيك باريس؟ ماذا عن دمشق؟

ــــ الحنين إلى بيروت لا نهاية له. عشت فيها كأنها حضن الأمّ بعد الفراق. وهكذا هو حنيني إليها. أنا الآن لا أعيش في باريس، أعيش في بيتنا الخاصّ، الذي لا أغادره إلا إلى الطبيب. دمشق، أيضاً، بلدٌ عظيم عريق كريم. وفضل أهلها عليّ كبير.

تعاني الصحافة الجادّة تحدّيات جديّة في زمن التفاهة والتطبيع والتطرُّف. هل من تكامل بين النقد الصحافيّ والنقد الأكاديميّ؟ وهل من كلمة أخيرة لـ «الأخبار» والقرّاء؟

ـــــ أولاً هذا التكامُل هو ما نعَوِّل عليه. نأمل أن يواصل النقد التحليلي تطوّره مع مزيد من الرفق بالنص الإبداعيّ. لكن ينبغي أن نتذكّر بأنّ جاذبيّة الحكاية والخرافة كانت دائماً أقوى من جاذبية الحقيقة. علماً بأنّ الحقيقة لا تخفى طويلاً ولا تُمحى. إنه زمن التّحوّلات السريعة وزمن الاستهلاك: استهلاك الأخبار خاصّةً (أعني الحكايات). كأنّ الأخبار حلّت محلّ الحكايات والسِّيَر. ولا وقت للتحليل والمقارنة، بينما فنون الإعلام لا تكفّ عن التطوّر. آمل أن يتوصّل علم النّقد والتحليل إلى إيجاد آليات ومناهج لمزيد من الكشف والتدقيق والمقارنة. لكن نظام الأمواج هو ما يتطوّر ويتصاعد ويهدّد باجتياح عالم الإعلام. الصحافة اللبنانية صحافة رسالية. في عمق كل افتتاحية أو مقالة فكرية أو سياسية هناك عبرة، هناك ضوء وفكرة. فيها صوت معرفيّ رساليّ فاتح. أشكر جريدة «الأخبار» عظيم الشكر. وأحيي قرّاءها وأرجو لهم وللعالم أجمع نعمة العافية وأنوار المعرفة.

————————

رائدة الأدب النسائي العربي/ كمال ديب

سمحت الظروف أن ألتقي الشاعر والمفكّر أدونيس مرات ونتناقش في اهتماماته. ولكن لم ألتقِ زوجته خالدة سعيد إلا عن بعد: تحيات عابرة برفقة أصدقاء في مكتب مجلة في بيروت وفي معرض بيروت الدولي للكتاب. غير أنّ هذا لم يمنع أن أتابع وأتعلّم من كتاباتها التي تساوي بنظري أعمال عمالقة النقد الأدبي في أوروبا وأميركا، وأن أواظب على شراء كتبها ومؤلفاتها، وأقرأ مقالاتها بإعجاب.

هي خالدة صالح زوجة الشاعر أدونيس وشقيقة الشاعرة سنية صالح زوجة محمد الماغوط. درست خالدة الأدب العربي في جامعة دمشق وفي الجامعة اللبنانية في بيروت ثم حازت شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون في فرنسا. وهي إلى جانب الكتابة، عملت في مدارس ثانوية في لبنان، ثم تفرّغت للتعليم في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية منذ عام 1958 حتى تقاعدها عام 1996. ثم توزعت حياتها بين بيروت وباريس وقرية قصابين في اللاذقية.

أعتبر خالدة سعيد رائدة الأدب النسائي العربي الذي انطلق من بلاد الشام والعراق ومصر في الخمسينيات والستينيات ليعمّ العالم العربي من طنجة إلى المنامة والخرطوم. فكتاباتها النقدية ساهمت في تقديم شاعرات رائدات مثل نازك الملائكة في العراق وفدوى طوقان في فلسطين. وجاء ذلك في حقبة النهضة العربية الثانية حيث برزت فيها أديبات مثل كوليت خوري وغادة السمان في سوريا، وليلى بعلبكي (أنا أحيا) في لبنان، وكذلك في مصر وشمال أفريقيا حيث نشط الأدب النسائي وتواصل في ما بعد مع آسيا جبار وأحلام مستغانمي وفاطمة مرنيسي وفاضلة المرابط ونوال السعدواي ونادية تويني. وحتى في النضال الوطني، باتت المرأة العربية تقف يداً بيد مع الرجل مثل ليلى خالد في فلسطين، وجميلة بوحيرد في الجزائر.

أمّا ريادة خالدة الثانية فهي حضورها كامرأة في قلب الحركة الشعرية العربية الحديثة وخاصة ما عُرف بشعر الحداثة، ومن أبناء تلك الحركة صلاح عبد الصبور في مصر، ومحمود درويش في فلسطين، وبدر شاكر السياب في العراق وأبو القاسم الشابي في تونس وغيرهم كثيرون. كانت بدايات ريادتها هذه في مسقط رأس خالدة في اللاذقية التي كانت مختبراً حيوياً للفكر والأدب وكذلك للنشاط الحزبي التنويري سواء من الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتمت إليه، أو إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. فجمعت خالدة – مثل زوج المستقبل أدونيس – ثنائية الأدب والعقيدة، في وقت كان الشاعر أحمد علي سعيد يسهم في مطبوعات كجريدة «الإرشاد» ومجلة «القيثارة»، موقّعاً باسم «أدونيس» الذي اشتهر به. ثم انتقل إلى دمشق للدراسة في جامعتها وعمل في جريدة «البناء» الناطقة باسم الحزب القومي، ومن شعره في تلك الفترة قصيدته «قالت الأرض». ثم بدأ أدونيس يُرسل قصائده إلى الأديب القومي سعيد تقي الدين الذي نشرها في مجلة «الآداب» 1951. وفي عام 1950، عقد أدونيس خطوبته على خالدة ولم تسمح الظروف بالزواج قبل مرور سنوات. فهو تخرّج من جامعة دمشق في الفلسفة سنة 1954، ثم التحق بالخدمة العسكرية في العام نفسه، وقضى سنة في السجن بلا محاكمة بسبب انتمائه إلى الحزب القومي. وهذا الانتماء جلب الصعوبات لخالدة وأدونيس في سوريا، حيث تعرّضت خالدة للسجن مراراً بدون جرم ارتكبته. وإذ غادر أدونيس سوريا في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1955 بعد انتهاء خدمة التجنيد الإجباري، أمضت خالدة فترة أخرى في السجن، ما أجّل زواجهما حتى عام 1956.

في بيروت، التقى أدونيس الشاعر يوسف الخال وهو كان مثله قومياً سورياً. فأصدرا معاً مجلة «شعر» في مطلع عام 1957. وسرعان ما ضمّت المجلة شعراء قوميين سوريين كانوا في بيروت أو هربوا من سوريا أمثال نذير العظمة وأدونيس ومحمد الماغوط، إلخ. إذاً ضمن هذه الكوكبة من الأدباء، انضمت خالدة سعيد لاحقاً وباشرت عملها في المجلة في عددها الثاني بمقالات نقدية واكبت الحركة الشعرية الحديثة تحت اسم خزامى صبري. فعرّفت عنها المجلة أنّها «ناقدة سورية شابة تقيم في دمشق وتدرس الأدب العربي». واستضافت خالدة في منزلها المنتدى الأدبي المرافق للمجلة باسم «خميس مجلة شعر»، الذي كان يشارك فيه إلى جانب زوجها أدونيس، يوسف الخال والماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وعصام محفوظ ونذير العظمة وغيرهم. وفي العدد الثالث، كتبت مقالاً نقدياً صارماً عن ديوان الشاعرة العراقية نازك الملائكة «قرارة الموجة»، ومقالة نقدية عن ديوان «لن» للشاعر الجديد آنذاك أنسي الحاج. وفي العدد الرابع (خريف 57) كتبت مقالة نقدية عن ديوان الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (وجدتها)، ثم مقالة نقدية عن ديوان الشاعر خليل حاوي (البعث والرماد) الذي كان أيضاً قومياً سورياً في عدد شتاء 1958، ثم مقالة عن ديوان محمد الماغوط في صيف 1959 (حزن في ضوء القمر). وبعد ذلك، بدأت مقالاتها تصدر باسمها الحقيقي وسرعان ما أطلقت عليها الصحف لقب «أيقونة النقد الأدبي الحديث».

ومنذ عام 1960، أخذت خالدة تؤلف الكتب والدراسات التي فاق عددها ستين مؤلّفاً، بدءاً بكتابها النقدي «البحث عن الجذور» عن دار مجلة «شعر». وكان لافتاً أنّ اشتغال خالدة على النقد الأدبي وإبراز شاعرات نساء في مقالاتها، لاقاه في نفس الفترة نفس الاشتغال للشاعرة العراقية نازك الملائكة التي أصدرت عام 1962 كتابها المحوري «قضايا الشعر الحديث» (والذي لا يزال يدرّس في الجامعات حتى اليوم). وتقع أهمية العمل النقدي لخالدة سعيد أنّ النقد هو عصب الأدب الذي بدونه لا يحصل ارتقاء وثقافة، وهكذا كان منذ زمن المعلقات السبع في عصر الجاهلية حيث كان الناقد الأبرز النابغة الذبياني شاعراً أيضاً، فلم يكن بروز الخنساء (تماضر بنت عمرو) سوى لأنّها شاعرة كبيرة باعتراف نقاد عصرها.

ثم إنّ خالدة هي رائدة أيضاً في ريادتها للنقد الذي تتالى في كتبها الجميلة ومنها أإيضاً «حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث»، «في البدء كان المثنى»، «فيض المعنى»، «يوتوبيا المدينة المثقفة»، «جرح المعنى»، «أفق المعنى»… كما وضعت مقدّمات عشرات الكتب والدراسات الفكرية، واشتغلت على مشروع الأعمال الكاملة لسنية صالح، فضمّ قصائد ومقالات وقصصاً كانت تُنشر للمرة الأولى.

ولم يقتصر عمل خالدة سعيد على النقد الأدبي، بل تجاوزه إلى النقد المسرحي حيث وضعت كتاباً عن المسرح اللبناني يغطي الفترة 1960 إلى 1975. وإذ لم يُشِر كتابها هذا إلى مسرح الرحابنة إلا قليلاً وبشكل عابر، اكتفت خالدة سعيد بالقول إنّ الأعمال الفولكلورية التي قدّمها الرحابنة في مهرجانات بعلبك «يمكن اعتبارها خطوة أولى نحو تطوير مسرح محلّي لبناني» لا أكثر. وأضافت أنّ ثمّة ميّزات لمسرح الرحابنة هي خارج مهام النقد المسرحي الجاد وتحتاج معالجتها النقدية إلى كتاب آخر. ورغم تمييز خالدة سعيد بين إعجابها بفيروز في مقالات عدة وضآلة ما قالته عن مسرح الرحابنة، فهي كتبت في مناسبة عودة ظهور فيروز في بعلبك عام 1998، أنّ «فيروز هي ظاهرة فريدة من نوعها أصبحت رمزاً لبعلبك. وأنّ فيروز هي من تلك المرّات النادرة التي يتحوّل فيها الفنان رمزاً لأمّته. في أحلك الظروف، لم تفقد فيروز الأمل بأنّ الفن هو صورة لبنان الخالدة، ولم تفقد الإيمان أنّ الفن ينقذ العالم. أصبحت رجاءً للبنان يوتوبي مثالي».

* أستاذ جامعي ــــ كندا

—————————-

شاهدة المعنى/ سليمان بختي

حملت الناقدة خالدة سعيد إلى جانب تجربتها الأكاديمية تجربة عملية في المؤسّسات والنشاطات والمبادرات والمشاريع الثقافية. وهي منذ نصف قرن في حومة الفكر النقدي وشكلت مع أسعد رزوق وجبرا ابراهيم جبرا ما يمكن تسميته المواكبة النقدية لمشروع مجلة «شعر» في تجديد الشعر العربي الحديث، وأيضاً في مجلة «مواقف»، وطورت وعيها النقدي الإبداعي الشعري الحضاري إلى وعي اجتماعي وأخلاقي وتاريخي. وأقامت الجسور المتينة بين أشكال الوعي وأشكال التعبير. رصدت الظواهر والرموز الشعرية والثقافية وكتبت عنها بحبّ وعمق وتبيين. نحتت الطريق لقراءة شعراء مجلة «شعر» ولاحقاً شعراء الحداثة العربية. وعلّمتنا القراءة الهادئة العميقة. وغاصت في الكتب التي ترصد وتحلّل وتدقّق وتوثّق وتمرحل ويكون كلّ ذلك جزءاً من تجربة الكاتب أو الكاتبة نفسه.

أصدرت عام 2012 «يوتيوبيا المدينة المثقفة» وهو كتاب نقيض لكلّ ما نعيشه في هذا الزمن المتهافت. وفي المعنى الذي يسبغ القيمة على الحياة. هذا الكتاب هو برأيي، حدث في سيرة الثقافة في المدينة والوطن، وتاريخ ثقافي لحداثة مدينة لم تفقد الكاتبة التواصل معها منذ أقامت فيها في عام 1956. استعادت المدينة من الذاكرة لترويها في كتابها. هذا الكتاب برأيي، هو طريق بحث عن الإنسان ومعاني حضوره في المكان. هو كتاب في الحب، والحب يعني المعرفة والمبادرة. هكذا أن تحب المدينة وتحب بيروت وتذوب في المكان كي تستلهمه وتستعيد الحلم وترتقي معه إلى نهضة مرتجاة. ولا عجب أن تهدي خالدة سعيد كتابها «إلى بيروت، في الأزمنة كلها» لأنّ قيمة الأزمنة في النهاية بما تحمل من قيم وأمثال وأحلام وأسئلة وإنجازات ومواقف. تنتمي خالدة سعيد إلى ثقافة الأسئلة. ولعل السؤال الأقوى الذي تطرحه دائماً هو: كيف يمكن أن نستعيد روح النهضة؟ قضية الثقافة، قضية الإنسان؟ ما هي المؤسسات التي شهدت للثقافة وشقّت طريق التغيير وخلقت حساسية وحيوية تجدديّة في المجتمع؟ كيف يصنع الحدث الثقافي وكيف يُبنى العمل الثقافي بمعايير رسالية متجدّدة؟ وكيف يتجسّد الشغف بإرادة لا تلين لتحقيق ما يشبه المستحيل؟ كيف نفتح الذهن على فتنة الواقع لا لأجل قبوله بل لتجاوزه وتغييره؟ كيف نعيش الحاضر بقوة الماضي وحلم المستقبل؟ كيف تصبح الثقافة المثل الأعلى في المجتمع؟ كيف يصبح الشعر في معركة الوجود؟ (عنوان أحد كتبها). رأت خالدة سعيد الكتابة الإبداعية كحركة بين الوعي بما هو معرفة متحصّلة وأجهزة تعرّف وذاكرة، وبين الحلم بما هو تطلّع ونزوع وكشف واستشراف، يرتفع بالمعرفة إلى ممكنها ومرتجاها. ربطت الكتابة بالشجاعة والحق والمجاهرة بالموقف والمسؤولية وكفعل صيانة للمستقبل.

تسأل خالدة سعيد: كيف حصلت القطيعة بين الثقافة والسياسة؟ وكيف انغلقت المؤسسات السياسية والإدارية على الثقافة والفكر النقدي؟ وغابت الحوارات في المجتمع، وغابت العقلانية والتواصل، وغاب الإبداع، وغابت المعايير والمفاهيم، وتحولت الحياة إلى مجرّد خواء هزيل.

كيف يمكن أن يكتب المرء غير يائس؟ كيف تعود بيروت مختبراً للضمير والأحلام والمشاريع والمبادرات ومساحة للتلاقي؟ كيف يعود تيار الحداثة ليعصف في المجتمع، مستنداً إلى الديمقراطية والمعرفة والتربية الإبداعية؟ الجواب عن هذه الاسئلة كلّها في قوة المجتمع المدني إذا أراد. في الثقافة والديمقراطية والهوية الحضارية. وفي العمل لأجل مدينة تنهض على الفكر والقانون والحياة في الإبداع، وفي الانتماء إلى الثقافة باعتبارها نهضة وسبيلاً للعقلنة وعملاً تأسيسيّاً لبناء الإنسان وبناء المجتمع وبناء الحضارة.

في علوها الثمانيني ولم تزل تكتب وتحلم وتصوب. أنجزت الجزء الثاني من كتاب «يوتيوبيا المدينة المثقفة» بعنوان «فضاءات» وتتناول فيه الشخصيات والرموز والأعلام التي صنعت نهضة بيروت وحداثتها. كما تعمل على كتاب حول القصة والرواية العربية، وكتاب آخر حول موسوعة النساء في العالم.

في 9 آب (أغسطس) 2014، كتبت خالدة سعيد شهادة عن الأمينة الاولى جولييت المير سعادة ووصفتها بأنها شهيدة المعنى. أرى أنّ خالدة سعيد في ما عملت وأنجزت في الثقافة العربية وحركة النقد هي شاهدة المعنى.

* ناشر وناقد لبناني

—————————–

أيقونة نقد الحداثة/ محمود شريح

منذ صدور كتابها النقدي الأوّل «البحث عن الجذور» في عام 1960 عن دار مجلّة «شعر»، وهي في الخامسة والعشرين، رسّخت خالدة سعيد موقعها النقدي على خارطة الحداثة العربية. ما أن وصلتْ من دمشق إلى بيروت مع رفيق دربها أدونيس حتى عزّزت رؤيتها الثاقبة في أنّ الشاعر عندنا، مثله مثل الشاعر أينما كان، لهو في مواجهة طغيان المادّة وانحسار الروح وقواها، وفي أنّ الحساسيّة الشعريّة العربيّة المعاصرة ظهرت إثر احتكاكها الثقافي بالغرب، مشبّعةً بصورة جليّة بأزمة الإنسان المعاصر طامحاً لأن يثقبَ جدران المعقول. على هذا النحو، انخرطت خالدة سعيد تحت راية مجلة «شعر» حين أصدرها يوسف الخال رئيسَ تحرير مع أدونيس مديرَ تحرير بدءاً من شتاء 1957. في البدء، تعاونَ الخال مع خليل حاوي، لكن هذا الشاعر المبدع انسحب، فلم يكن من جماعة «شعر» ولا هو أراد. واتّفق أن التجأ إلى بيروت آنذاك شعراء سوريون شبّان كانوا أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي أو مقرّبين منه (نذير العظمة، محمد الماغوط، فؤاد رفقة)، ثم اكتملت نواة مجلة «شعر» حين انضمّ إليها شوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وعصام محفوظ وأسعد رزّوق.

بعد قرابة عقدين على إصدارها «البحث عن الجذور»، خصّت خالدة سعيد مجلّة «مواقف» بدراسة معمّقة تحت عنوان «الحداثة أو عقدة جلجامش» (مواقف، 1982) أسهبت فيها بتنامي أزمة التصدّع في نصّ الحداثة بردّه إلى الوعي باختلال العلاقة مع الصورة الأبوية أو الأنا الكاملة، ذلك أنه لا انفصال بين الصورة الكلّية للعالم كما استقرّت في ثقافة ما، وبين هوية الفرد في هذه الثقافة. وعبر هذا الاختلال تنشأ أزمة يمكن بها فهم أسطورة الموت والانبعاث التي استحوذت على مخيّلة شعراء الحداثة في الخمسينات والستّينات. إذ كان لأسطورة تمّوز أو أدونيس، بأشكالها وتمثيلاتها المختلفة، شيوعٌ مردّه صياغة هذا التصدّع واختلال العلاقة بالأنا الأبوية، وحيّز للتحوّل من عالم الأب إلى عالم الابن وفق علاقة تضادّ. فلكي يحيا الشاعر، ينبغي له أن يموت. ظهر هذا المنحى واضحاً عند أدونيس والسيّاب وحاوي والخال وجبرا، لكنّ خالدة سعيد لا تُهمل شعراء الجيل الجديد، من عبّاس بيضون إلى سمير الصايغ، فيما تضع الحداثة في إطارها التاريخ منذ طه حسين وعلي عبد الرازق إلى الياس خوري وكمال أبو ديب، مع إضاءات على محمد الماغوط وسنيّة صالح وتوفيق صايغ وصلاح عبد الصبور وغسّان كنفاني وإميل حبيبي.

بعد قرابة ستين عاماً على صدور «البحث عن الجذور»، تعلن خالدة سعيد في جديدها «أفق المعنى» (دار الساقي، 2018) أنّ الحداثة أفق مفتوح، فلا نهائيات بل رؤى واحتمالات، وأنها وضعيّة فكرية إشكاليّة تميّز المنعطفات الكبرى في تاريخ الثقافات، وتلحّ الناقدة على أن العلمنة بعدٌ من أبعاد الحداثة، كما في فكر أنطون سعادة حين طرح مسألة الأصالة من حيث هي ديناميكية الأنا التاريخية.

تُولي خالدة سعيد جبران مكانة خاصّة في نصّه القائم على تجسيد ثنائية المحجوب/ الظاهر أو الجوهري الكلّي/ العرضي الجزئي، وفي سمة «الشعرية» التي تميّز النصّ الجبراني. وتلتفت إلى روّاد الحداثة، من الرصافي إلى يوسف الخال ونازك الملائكة، وتتوقّف عند خليل حاوي ومحمد الماغوط ولميعة عبّاس عمارة وفؤاد رفقة وعبد الله البردوني وأبو القاسم الشابي وابراهيم طوقان ومطلق عبد الخالق، إلى طلائع التجديد في مصر (أبو شادي، شكري، ناجي)، ثم تنصرف الناقدة إلى دراسة قصائد محمود درويش، فترى أن هذا الشاعر واقفٌ بين الذكرى والوعد، بين الأفق والهاوية، وأن عالمه حنين واستحضار يمنح الغيابَ وجهَ المثال، يبني للغياب فردوس حضور، عالم حنين يرمّم المعنى الجريح، في إيقاع عبارة وصورة شاسعة، فأسّس درويش قاموساً فلسطينياً وأرسى مخيّلة فلسطينية. ثمّ تلتفت خالدة سعيد إلى بدر شاكر السيّاب في قصيدته «أُنشودة المطر» حيث يكشف الشاعر عن رؤى ومشاهد ويعيد رسم طبيعته واكتشاف صوته ومعناه، وحيث «المطر» رمز انبثق من نسيج النصّ ومن صميم اللحظة الشعرية، فالقصيدة بذاتها وسيط نموّ أو مسار تحوّل وتصاعد، وحيث التداخل بين الإنسان والطبيعة. على هذا النحو تحلّق خالدة في فضاء النقد طال عمرها حيث هي في منفاها الباريسي الهانئ.

* باحث فلسطيني

——————————-

جذور متجدّدة منغرسة في تربة الحلم/ محمد بنيس

خالدة سعيد رمز من رموز بُناة الحداثة في العالم العربي. وهي واحدة من النساء العربيات الرائدات، اللواتي بادرن بأخذ الكلام في الحياة الثقافية العامة، منذ العشرينيات من القرن العشرين، ابتداء من عائشة تيمور، هدى شعراوي، نبوية موسى، مي زيادة. نساء خرجن من البيت إلى الساحة العمومية، في أغلب البلاد العربية التي شهدت تحديث التعليم: كاتبات، فنانات، وناشطات حقوقيات. ومع امتداد الزمن، اتّسعت دائرة هؤلاء النساء، بأعمال تمثل، اليوم، تراثاً دمْغتُه الجرأة والإبداع. لخالدة سعيد وضعية خاصة، في هذا المسار الشديد الوعورة للمرأة العربية الحديثة، لأنها أصّلتْ رغبتها في استكشاف القصيدة العربية المعاصرة، منذ الخمسينيات. فهي ابنة عائلة سورية مثقفة، علمها أبوها، خليل صالح، (الذي أهدته كتابها «في البدء كان المثنّى») أنه «لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه، بل بعلمه وأعماله». وهو الذي عرّفها إلى نساء كاتبات نهضويات. أختها الكبرى سنية صالح (1935 ـ 1985)، شاعرة وكانت متزوجة من محمد الماغوط. كانت اللحظة الثانية لخالدة، على طريق الثقافة والحرية الفكرية، لقاءها سنة 1950 في جامعة دمشق بأدونيس، الذي كان هو الآخر التحق في السنة ذاتها بالجامعة. ومعاً هاجرا من دمشق إلى بيروت، حيث تزوجا بتاريخ 26 آذار (مارس) 1954.

ثم جاءت لحظة الشروع في مغامرة الكتابة مع مجلة «شعر». في البداية، نشرت قراءات نقدية باسم مستعار هو خزامى صبري. كان ظهور أول مقالة لها في العدد الثالث من المجلة (صيف 1957) بقراءة لديوان نازك الملائكة «قرارة الموجة». واستمرّت في نشر دراسات نقدية بهذا الاسم المستعار حتى العدد الحادي عشر (صيف 1959) بدراسة عن ديوان محمد الماغوط «حزن في ضوء القمر». وفي العدد الموالي، الثاني عشر (خريف 1959) أعلنت عن اسمها الذي عُرفت به لاحقاً، خالدة سعيد، بدراسة عن كتاب «الأسطورة في الشعر المعاصر» لأسعد رزّوق. وظلت تنشر مقالاتها بالاسم ذاته حتى العدد التاسع عشر (صيف 1961) من «شعر»، تناولت فيه موضوع «بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث».

هذه الدراسات الأولى هي التي أظنّ أنها تشكّل مادة كتابها الأول «البحث عن الجذور»، الصادر عن دار مجلة «شعر» سنة 1960. أغلّب الظن، هنا، لأني لم أطّلع على هذا الكتاب، الذي كان صدر وأنا كنت لا أزال تلميذاً في المدرسة الابتدائية، فيما مجلة «شعر» لم تصل، حسب علمي، إلى المغرب أول مرة إلا بعد 1968.

كانت خالدة متضامنة مع أدونيس ومحاورة جيّدة له في دواوينه الأولى وفي دراساته المنشورة في مجلة «شعر»، كما كانت قارئة لأهم الدواوين العربية الحديثة الصادرة في الخمسينيات. ورغم أني لم أطّلع مباشرة على كتاب «البحث عن الجذور»، فإنّ دراساتها النقدية المنشورة في المجلة دلّتني على معنى المغامرة التي انخرطت فيها مباشرة. كنت دائماً شغوفاً بتأمّل عنوان هذا الكتاب «البحث عن الجذور». أردّده في نفسي وأعيد. أتأمّل، لأنّ الدراسات التي كانت سائدة آنذاك، غالباً ما كانت تقف عند المسألة العروضية في الشعر الذي كان له اسم «الشعر الحر» مثلما كان له اسم «الشعر المعاصر». فتلك الدراسات كانت تبحث في الظاهر، أي فوق سطح تراب القصيدة الحديثة. إلا أن خالدة سعيد تجاوزت هذه الرؤية الاختزالية، القنوعة بما يظهر من القصيدة، واتجهت نحو الجذور. هي جذور مجهولة، كان الوصول إليها يتطلّب البحث. ذلك أن البحث يعني «طلب الشيء في التراب» كما جاء في «اللسان»، أي في الجذور الدفينة، المغمورة، البعيدة الغور. بهذا يكون عنوان الكتاب الأول لخالدة سعيد دعوة لمنهج هو الذي سيدُلّ على الطرق الألف لتلك القصيدة الحديثة التي كانت تخطو، آنذاك، خطواتها الأولى في أرض تقليدية، حتى من بين الذين كانوا يعتقدون أنهم حديثون.

تلك الجذور هي التي أشار إليها فؤاد رفقة، قارئ الكتاب في العدد الرابع عشر من مجلة «شعر» (ربيع 1960)، حيث كتب «الكشف عن التأثير الحضاري في الشعر، هو، إذن، البحث عن جذور الشعر». من هنا كانت عناية خالدة بـ«الصور النفسانية المتلاحقة». والجانب المغمور، في القراءة للقصيدة الحديثة، هو الذي جعل فواد رفقة يختتم مقالته بأن «هذا الكتاب يصلح لأن يكون قاعدة انطلاقية لنقد القصيدة العربية الحديثة». فؤاد رفقة كان ذا وعي نقدي عميق. نتأكد، اليوم، من ذلك، بعد مضيّ ستين سنة على قراءته. خالدة سارت فعلاً على طريق البحث في القصيدة العربية الحديثة، وهي تتبع إبدالاتها، بحساسية ثقافية عربية تفيد من حركة النقد الغربي، وبذكاء يجمع، في آن، بين القدرة على الإنصات للقصيدة وعلى التواضع أمامها. هكذا كانت خالدة سعيد فاتحة لقراءة جديدة للشعر الحديث مثلما كان أدونيس فاتحاً لأرض شعرية جديدة. من هنا يتضح لا التضامن فقط، بل التكامل والتفاعل بين خالدة وأدونيس.

استأنفت خالدة نشر مقالاتها مع العدد الأول من مجلة «مواقف»، الصادرة سنة 1968. مقالة قصيرة، عبارة عن بيان بعنوان «من قبل ومن بعد». بيان برائحة الثورة. ورد فيه ما كان أصبح مؤثراً في الحركة الثقافية العربية بعد نكسة 1967: «والشعر اليوم مؤهّل لأن يلعب دوراً روحياً لأنه ثورة وحركة». بهذه الدعوة الجموحة، الثورية، استحوذت عليّ أولُ دراسة قرأتها لها في العدد السابع من «مواقف» (السنة الثانية، كانون الثاني ـ شباط 1970) حول قصيدة أدونيس «هذا هو اسمي: إيقاع الشوق والتجاذب». كان أدونيس نشر القصيدة في العدد الرابع من المجلة (أيار ـ حزيران 1969). قصيدة تؤرّخ لمرحلة متوهّجة من الممارسة الشعرية لأدونيس، في أفق ما سماه لاحقاً «تأسيس كتابة جديدة» (العدد 15، أيار ـ حزيران 1971). تفاعلي مع دراسة خالدة سعيد جاء على إثر ما كانت أصبحت عليه اهتماماتي الشعرية والثقافية.

فأنا كنت زرت باريس في صيف 68 وعاينت جذوة ثورة ماي، رمز ثورة الشبيبة الفرنسية، وفي بداية 1969 كنت أصبحت منتبهاً إلى الحركة الثقافية والنقدية الفرنسية الجديدة. لذلك وجدت في دراستها ما يشجّع على المغامرة في الكشف عن فضاء القصيدة الحديثة، كما جسدتها قصيدة «هذا هو اسمي».

لا أشكّ أن هذه الدراسة كانت صادمة في زمنها، وهي لا تزال حتى اليوم تحمل طاقة الصدمة. إنها الدراسة التي أعادت خالدة نشرها في كتابها النقدي الثاني، الصادر سنة 1979 بعنوان «حركية الإبداع». في الكتاب ذاته، دراسات عن أنسي الحاج وبدر شاكر السياب. فأغلب الدارسات المنشورة فيه تخص القصيدة العربية الحديثة، مع مقالات تحيط بالمرحلة الحديثة من الحركة الشعرية العربية. عنوان هذا الكتاب يسير وفق نسق عنوان الكتاب الأول. أعني أن «حركية الإبداع» هي نفسها بحث في الجذور بلغة مختلفة، بما هي خصيصة حافظت عليها خالدة سعيد. وهو ما كنت أقدّره عالياً في كتاباتها وفي اختيارها الثقافي على امتداد السنوات.

في صيف 1979، سنة صدور الكتاب، كانت خالدة زارت المغرب، صحبة أدونيس ومحمود درويش وإلياس خوري، للمشاركة في أنشطة «موسم أصيلة الثقافي الدولي». وكان من حظ زوجتي أمامة وحظي أنهم فاجأونا بزيارة جماعية في شقّتنا بالمحمدية. خلال الزيارة، أهدتني خالدة نسخة من هذا الكتاب، الذي أحتفظ به كوسام يدل على النبالة الفكرية. تلك كانت انطلاقة تعارف بيننا عن قرب. ولا أنسى، هنا، تفضّلها باستضافتي على إثر الدعوة الكريمة التي وجّهها لي أدونيس لزيارة بيروت في الفترة ذاتها. تعارف أستحضره بالعرفان. فقد سُعدت دائماً بتقاسم الحديث معها حول الشأن الشعري وحول القضايا الثقافية في زمننا، مثلما كان حديثنا حميماً باستمرار عن الحياة الشخصية والعائلية، أو الحياة الاجتماعية والسياسية. وكنت أحسّ، في أحوال الحديث الشعري والثقافي، برغبتها الجامحة في ترسيخ ثقافة نقدية حديثة، لها المعرفة المتآخية بين الذات والآخر، كما لها التساؤل الذي لا يتوقف عن تجديد نفسه.

قبل هذا الكتاب، كنت قرأت «عصر السريالية»، الذي كان صدر سنة 1967 في بيروت عن «منشورات نزار قباني»، ووصل في السنة الموالية إلى المغرب. ولا شك أن تخصُّص والاس فاولي، الباحث الأميركي في الأدب الفرنسي، وميلها آنذاك إلى الحركة السريالية، على غرار جماعة مجلة «شعر»، هو ما شجعها على ترجمة الكتاب.

وعلمتني السنوات أنّ تعلّقَ خالدة بالشعر وبالحداثة الشعرية يتقاطع مع رؤيتها للمجتمع ومع زمن بيروت التي كانت تعيش فيها. أما المجتمع، فكانت حرية المرأة همّاً لا يفارق كتاباتها. وقد خصتها بدراسات توالت عبر سنوات، وجمعتها في كتاب له عنوان «في البدء كان المثنى». هو كتاب يهتدي بمنطق التكامل وليس التعارض بين المرأة والرجل. ذلك ما تعبّر عنه كلمة «المثنى» في العنوان. ففي مدخل هذا الكتاب الجريء، دراسة تأمّلية موسعة في العلاقة بين الرجل والمرأة، ومقاربة لتحكّم الرجل في المرأة والإصرار على إخضاعها لسلطته. تكتب خالدة: «لكن الصعب هو تحليل موقف الهيمنة والتملّك والقمع الذي يحضر غريزياً، عفوياً وثقافياً لدى المذكّر». ومن بين أهم الدراسات التي يتضمنها الكتاب تلك التي تحمل عنوان «المرأة العربية كائن بغيره لا بذاته»، وهي في الأصل محاضرة ألقتها سنة 1970 في دار «الفن والأدب» في بيروت. هذه الدراسة تتوازى، برأيي، مع ما كان أدونيس يكتبه آنذاك عن الشعر أو عن السلطة العربية إجمالاً. لكنها أيضاً تتقاطع مع ما كان يكتبه حليم بركات أو صادق جلال العظم. وهي تتجاوب مع أعمال كاتبات وفنانات عربيات، أمثال فاطمة المرنيسي، فدوى طوقان، أندريه شديد، ناديا تويني، سنية صالح، منى سعودي. بمعنى أن كتابات خالدة سعيد عن المرأة وعن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت تندرج ضمن الحركية الثقافية النسوية، التي نشأت في السبعينيات، بطابعها اليساري، النقدي. وكتاباتها، مع كتابات سواها من النساء، نداءٌ لإعادة كتابة تاريخ الثقافة العربية الحديثة بصيغة المثنى، بعد أن احتكر كتابته المذكّر المفرد الذي يستبعد المرأة: كاتبة، فنانة، مناضلة، باحثة، مفكرة، مبدعة.

انشداد خالدة سعيد إلى التحديث تنعكس صياغته في الفعل المتواصل لديها من أجل التحرّر. فليس التحرّر ممكناً في تصورها بغير ثقافة متحرّرة من المغلق بكل ما يعنيه، ثقافياً، دينياً وأخلاقياً. بهذا نجدها تخصص لثقافة التحرّر كتابين: «يوتوبيا المدينة المثقفة»، الصادر سنة 2012. هو لبيروت وعن بيروت، المدينة التي كانت تنتمي إلى حياتها الثقافية نخبة من العرب الداعين إلى مكانة الثقافة في التحرر. في هذا الكتاب دراسات عن «الندوة اللبنانية»، المؤسسة التي اتسعت للإبداع والاختلاف، عن الفن الغنائي، ممثلاً بفن فيروز، المبدعة في حياة وعمل الفنان الحديث، عن مجلة «شعر» ومجلة «مواقف» و«دار الفن».

ويختتم الكتاب بأصداء الصداقة والمحبة لأسماء لبنانية كان لها في بيروت حياة من الإبداع والحوار. هو كتاب مديح لبيروت التي ستبقى شامخة بما أعطت للثقافة العربية من أفق الحرية وسعة الاختلاف وصلابة المقاومة.

أما الكتاب الثاني فهو عن «الحركة المسرحية في لبنان: 1960 ـ 1975، تجارب وأبعاد» الصادر سنة 1998. عمل موسوعي، رغم أن خالدة سعيد ترى أن ما كانت تتغيّاه هو أملها في أن يقدم «إضاءة متماسكة لركائز تلك الحقبة ويؤسّس لمرجع أوّلي حولها يشجع الباحثين على وضع دراسات مقبلة». أهمية هذا العمل الكبير، هي أنه يحافظ على ذاكرة «المسرح العربي» في لبنان، حيث «الحركة المسرحية اللبنانية مغامرة انطلقت، كما كتبت في كلمة الإهداء سعاد نجار، ذخيرتُها الإيمان والمواهب، طريقُها البحث والرؤى والعلوّ على الذات، قانونُها العطاء». حركة تم تدميرها لكنها تظل حاضرة بقيمة ما أبدعته وقدمته، وحاضرة بهذا المؤلف الموسوعي الذي أنجزته خالدة سعيدة بمحبة عالية للإبداع المسرحي والمبدعين المسرحيين اللبنانيين.

وكما ابتدأت كتاباتها النقدية عن الشعر العربي الحديث، فهي نشرت سنة 2014 كتاباً فريداً في النقد الشعري العربي بعنوان «فيض المعنى». في هذا الكتاب بحث متجدّد، كما ذكرت من قبل، عن الجذور، الذي يظل بحثاً مكتوباً بمداد المستقبل. كتاب يتناول أعمال شعراء عرب حديثين، من أجيال وجغرافيات شعرية مختلفة. في هذا الكتاب رؤية متفحّصة للحركة الشعرية العربية الحديثة، عبر ما يزيد على خمسين سنة، وهو ما لا نجد أيَّ ناقد عربي آخر أقدم عليه. ثم إن قيمة القراءات، هنا، ليست في عدد الشعراء وكتاباتهم المتباينة فقط، بل في القدرة أيضاً على تتبع هذه الحركة على امتداد عقود، بنباهة وتعاطف. وإذا كان هذا الكتاب بحثاً عن الجذور، بصيغة أخرى هي صيغة الزمن المعرفي المتبدل، فهو، كما كتبت خالدة في «بيان القراءة الناقصة»: «يتخيّر الرحيل مع الأثر الشعري، مصغياً بمجموع معارفه وخبراته، متلمّساً ظلالاً من كشوف النص ورؤاه، مستجيباً لدعواته وإيحاءاته».

هو بيان جديد لقراءة جديدة تستثمر معارف وخبرات تراكمت وتفاعلت في ما بينها، عبر هذه العقود التي مر بها الشعر العربي الحديث ومرت بها ثقافة الناقدة. كتاب هو أيقونة من أيقونات النقد الشعري في العالم العربي. ففي «البيان» ما له من أقصى الدلالات على معرفة مترسخة بقدر ما هي متخلصة من دوغمائيات (أو حذلقات) الكتابات النقدية السائدة عن الشعر العربي الحديث. وما يقدمه للقارئ المحب للشعر أو للقارئ المختص، يجمع بين التأمل والمتعة، بين الإنصات والحوار، بين الشرح والتأويل. وهو، لهذا كله، يجسّد «بيان القراءة الناقصة»، التي تدعو للقراءة وإعادة القراءة، بدون حدّ يقف عنده الناقد وهو يرحل في جغرافيات شعرية، تستقبلها خالدة سعيد بدهشة المغامرة ورحابة الاختلاف.

ومن أجمل الدراسات التي استوقفتني كثيراً في هذا الكتاب، ما خصّت به أختها سنية صالح، الشاعرة التي قرئ شعرها «على نطاق ضيق»، لكنها أنصتت إليها، إلى حياتها، إلى الشعر، إلى الولع بالأخوة الإبداعية. سنية «من هؤلاء الشعراء الذين الشعر عندهم، كالأمومة، فعل وجود». قراءة تحمل الكثير من الوفاء والكثير من العطش لكتابة، تعرف أنها «ناقصة». وما تكتبه عنها، في هذا الكتاب، يتمم ويوسع ما كتبته عنها من قبل في كتاب «في البدء كان المثنى»، إذ تبدو متتبّعة لخصائص السلوك الشخصي لسنية الذي يستكشف المشترك بين الشقيقتين. «فهي آمنت بالشعر وحده، كقوة محرّرة وبانية للعالم».

ما نعرفه لها أيضاً «الاستعارة الكبرى» (في شعرية المسرح)، الصادر سنة 2007. في هذا الكتاب توسع خالدة سعيد معنى الشعرية، وفقاً لما اشتغلت عليه الحركة النقدية البنيوية، في حقل النثر إجمالاً. كما نعرف لها مؤلفات مشتركة مع أدونيس عن ثقافة النهضة العربية، وترجمة أعمال لكل من إدغار آلن بّو وفوكنر وكابوته. لكن ما لا نعرفه عنها أكثر مما نعرف، ويحتاج إلى استقصاء وتوثيق.

خالدة سعيد، كما عرفتها، مثقفة عميقة، ذات تكوين جامعي وحساسية فنية، مواكبة للجديد من المعارف النقدية والفكرية والفنية، معتنية بواجبات الزوجة والأم وربّة البيت، ساهرة على تربية ابنتيها أرواد ونينار. وهي، في كل حديث معها، متواضعة، تلقائية، خجولة. ومع أنها تتحاشى أيَّ ادعاء فهي شجاعة في التعبير عن رأيها. أحس معها بعراقة النبالة الشامية، ومن خلال كلماتها أستنشق عبق التاريخ الحضاري البعيد للشاميين، وما اكتسبوه من لطف وأناقة. في كتاباتها وسلوكها تقدير المرأة واحترام الآخر وحب الاطلاع واقتحام المغامرة. ولها الوفاء. وفاؤها لأختها سنية صالح مصابيح للسالكين على طريق الأخوة. ولأدونيس أعطت حبها الكبير وما يعنيه من تضحيات مؤكدة.

خالدة سعيد ناقدة الشعر العربي الحديث في أعمالها المضيئة بالمستحيل. عبر قراءتنا العاشقة، نكتشف أن مؤلفاتها علامة على رؤيتها الخلاّقة للإبداع وحريته، وأن خالدة سعيد هي نفسها جذور متجدّدة، منغرسة في أعماق تربة الحلم بحداثة عربية لها حضورها في العالم ومع العالم.

* شاعر وناقد مغربي

—————————-

خالدة كما عرفتُها/ يمنى العيد

الكلام عن الصديقة خالدة سعيد هو كلام عن تاريخ تعدّدت معانيه وتنوّع ثراؤه. وقد عرفتُ فيها هذا الثراء منذ لقائي الأول بها في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة/ الفرع الأول.

كان ذلك في زمن الحرب اللبنانيّة (١٩٧٧)، والسنة الأولى لانتسابي إلى الجامعة. وقد لفتني، يومها، هدوؤها وإقبال الطلاب على محاضراتها، فراح حضورها الذي يشبه السرّ، يحتلُّ مكانة خاصّة عندي. في عام ١٩٧٩، صدر لخالدة عن «دار العودة» كتابها «حركيّة الإبداع. دراسات في الأدب العربي الحديث» وقد أهدته: «إلى أدونيس وأرواد ونينار». وكان هذا الكتاب بمثابة كتابها الأول، ربما لفارق القيمة والزمن بينه وبين كتابها السابق «البحث عن الجذور» الذي صدر عام ١٩٦٠.

في ١٩٨٠/٣/٩، أهدتني نسخة من كتابها «حركيّة الإبداع…»، فكانت قراءتي لهذا الكتاب سبيلي لمعرفة خالدة الباحثة بصفتها من أوائل، إن لم تكن أوّل، من قدَّم معرفة جديّة بالنقد الحديث المرتكز، من ثمَّ، إلى البنيويّة.

لقد أفادت خالدة من البنيويّة، لكن إفادتها لم تكن تطبيقاً شكلانيّاً، شأن كثر ممَّن تأثروا بمفاهيم البنيويّة، أو التزموا بتطبيقها. ففي كتابها «حركيّة الإبداع» الذي قدَّمت فيه عدداً من الدراسات لنصوصٍ من أدب النهضة، نلاحظ، بدايةً، حرصها على إظهار هويّة النصّ الأدبي ومرجعيّة دلالاته في الواقع. ثم، ومع تغيّر بنى هذه النصوص، نجدها في تحليلها لها، تستعين ببعض ما قدّمته البنيويّة من مفاهيم، كدراستها للزمن والشخصيّات في رواية «ما تبقى لكم» لغسّان كنفاني.

صامتة عرفتُها، أو قليلة الكلام، ولكنها كانت تفاجئني بنبرتها الحاسمة حين يتعلّق الأمر بحقٍّ أو حقيقة. أذكر، على سبيل المثال، موقفها الجريء يوم اكتشفتْ أن أحدهم أدرج نصّاً لها في كتاب له من دون أن يشير إلى كتابها باعتباره مرجعاً.

ومخلصة كانت في تعاملها مع زملائها، فهي التي نبهتني، ذات يوم، إلى حقّي في الحصول على ترقية جامعيّة، وأرشدتني إلى ما عليَّ أن أقدِّمه من مستندات. وهي التي أبتْ أن تأخذ إجازة من دون راتب بداية سفرها إلى باريس، وفضّلت الاستقالة وخسران تعويض نهاية الخدمة، في حين كان بعضهم يتوسّل أكثر من طريقة، لا قانونية، لتغطية غيابه بغية الاستمرار في الحصول على راتب لا يستحقّه.

خالدة الباحثة والأديبة والأستاذة الجامعيّة هي أيضاً الأم والزوجة وربّة البيت المثاليّة الشجاعة التي لا يعرفها إلّا قلّة من الأصدقاء.

أتذكّرُها جالسةً، إلى جانب أدونيس، هادئة، يوم كانت قذائف الجيش الإسرائيلي (حزيران ١٩٨٢) تنهال على بيروت من المدينة الرياضيّة، وتهزّ منزلهما في الطابق الرابع من المبنى القريب، هوائيّاً، من المدينة الرياضيّة. فيهتزّ منزلهما، ويتكسّر زجاج بعض نوافذه، وينزاح عن مكانه كلُّ ما عُلِّق على جدران الصالة الرحبة من لوحات فنيّة لأكثر من فنّان وفنّانة. سألتهما وقتها، وقد لُذت بمنزلهما القريب من مبنى قسم اللغة العربية حيث فاجأتني الغارة:

«كيف لم تنزلا إلى ملجأ البناية!!»؟

«أن نموت هنا أفضل من الموت تحت الركام» قال أدونيس.

بيت خالدة وأدونيس، أحب أن أقول، وأعطف أدونيس على خالدة، فأنا أتكلم عنها، هي، الآن… هي سيدة البيت التي كانت تملأ المائدة بأطيب أنواع الطعام يوم كان أدونيس يدعو بعض الأصدقاء، من الأدباء والشعراء، إلى لقاء ثقافي في منزلهما العامر بالضيافة.

هي خالدة… الأنثى التي كانت من أوائل، إن لم تكن أول من ألقى الضوء على شعر أدونيس. وهي التي كتبت تحت عنوان «في البدء كان المثنى» كتاباً ارتكزت فيه إلى ثنائيّة وجود الإنسان، لتوضح الظلم التاريخي الذي أصاب الأنثى من الذكر، ولتلقي الضوء، من ثمَّ، على إبداع المرأة في أكثر من مجال من مجالات الأدب والفن: في الرواية والشعر والنقد والرسم والنحت… وقد أهدت كتابها هذا إلى والدها، بصفته الذكر المختلف، الذي كان يقول لها:

«لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه، بل بعلمه وأعماله»

هي خالدة التي أحبّتْ بيروت، فكتبت تحت عنوان: «يوتوبيا المدينة المثقفة» كتاباً ثريّاً أهدته: «إلى بيروت في الأزمنة كلها». وقد درست فيه، كما جاء على صفحة الغلاف الثانية ذكر «خمس مؤسّسات ثقافيّة طليعيّة رائدة نهض بها أفرادٌ في لبنان». هذه المؤسسات هي: «الندوة اللبنانيّة»، «التجمع الفيروزي الرحباني»، مجلة «شعر»، مجلة «مواقف»، «دار الفن والأدب»، إضافة إلى إلقائها الضوء على ما قام به، حسب قولها، مثقفون كبار، أمثال المطران خضر، والشاعر أنسي الحاج، والشاعر محمود درويش، والروائي غسان كنفاني وآخرين.

هي خالدة… تاريخ من العطاء. كتبتْ بجديّة وحب، ورأت تاريخيّة الأدب الحديث باعتبارها «حركيّة» إبداع، فسجلت بذلك اختلافها عن الذين رأوا في الأدب «انعكاساً للواقع». تقول:

«بدأتْ تباشير الحداثة العربيّة في الأدب مع التطلعات الأولى لانتزاع التعبير من أسر المطلق والنظر إليه كفاعليّة تاريخيّة». ثم، مستندة إلى قولها هذا، تدعو إلى «إعادة الاعتبار للإبداعيّة الإنسانيّة والنظر إلى الإبداع على أنّه فاعليّة أساسيّة»، أي أنه «نتيجة تعارضٍ وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات (الفرديّة والجماعيّة) إلى واقع غير متحقّق».

هي خالدة التي أصدرت كتابها الجميل «فيض المعنى» (٢٠١٤ دار الساقي) واستهلّته بما سمته: «بيان القراءة الناقصة»، وتعني بالقراءة الناقصة: القراءة التي تتلمّس أطيافاً من دلالات النص وملامحه، ولا تدّعي «القبض على المعنى الأخير»، بل ولا تؤمن «بإمكان ذلك».

تتجاوز خالدة المنهجيّة، أية منهجيّة، في قراءة الشعر، وترهن دلالات النص بقارئه، أو بما سمته «التلمّس»، أي بما يتلمّسه القارئ، من دلالات ومعالم جماليّة، في قراءته للنص.

بهذا المفهوم للقراءة، قدّمت خالده ما اعتبرته أطيافاً من الدلالات، ومن الملامح الجماليّة التي «تلمّستِها» في ما قرأته، في كتابها «فيض المعنى»، من نصوص شعريّة لكلٍّ من: أنسي الحاج، عباس بيضون، زليخة أبو ريشة، أمجد ناصر، عبد العزيز المقالح، وديع سعادة، عبد المنعم رمضان، عبده وازن، حسب الشيخ جعفر، محمد بنّيس، جودت فخر الدين، وسنية صالح.

تثري خالدة مفهوم «التلمس» بما قاله أبو نواس:

«غير أنّي قائلٌ ما أتاني من ظنوني مكذبٌ للعيان

آخذاً نفسي بتأليف شيءٍ واحد في اللفظ شتّى المعاني

قائمٍ في الوهم حتى إذا ما رمتُه، رُمتُ معمَّى المكان»

وشارل بودلير: «الجمال غريبٌ دائماً».

وغاستون باشلار: «أن تقرأ يعني أن تحلم».

ورولان بارت: «الكتاب يبدع المعنى، المعنى يبدع الحياة».

وعبد العزيز المقالح: «إنَّ الهوى كَلِفٌ بالرموز».

هي خالدة أخيراً وليس آخراً التي أنجزت موسوعتها الضخمة والقيّمة «الحركة المسرحيّة في لبنان ١٩٦٠ ــ ١٩٧٥»، والتي قدمتْ فيها معرفة موثّقة ودقيقة بالمسرح وهويّته، كما بالمسرحيّين ممثلين ومخرجين، بمبدعي النصوص وناقليها إلى العربيّة، بالمسار وعناء تحقيق الأماني والأحلام… أي ما يشكل مرجعاً، لا غنى عنه، لكل باحث أو طالب معرفة بما قدمه المسرح والمسرحيون في لبنان فترة تأسيسه ونهوضه.

خالدة… شكراً لعطاءاتك التي أثرتْ نتاجات الأدب والفن العربييْن، وأضافتْ إلى قيمهما قيمة، وإلى جماليّتهما جمالاً.

* كاتبة وناقدة لبنانية

ملحق كلمات

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى